الحمد لله وكفى وسلام على عباده الذين اصطفى
وبعد فإن تاريخ موريتانيا الإيجابي يتواصل بأمر من الشيخ علي الرضى بن محمد ناجي حفظه الله ورعاه، وسننشر اليوم على بركة الله ترجمة للعلامة محمد بن محمد سالم المجلسي. والله المستعان وعليه التكلان .
العلامة محمد بن محمد سالم المجلسي:
هو عين الأعيان وفتى الفتيان، وبحر العلوم “الريان”، من هو في الصميم من بني عبد شمس، ومن كان للعلماء العاملين كالرأس، يفيض علمه مثل “النهر الجاري”، وكأنه في علم الحديث الإمام البخاري، هتك أستار ما كان من فقه الأصبحي استتر، فأخرج من صدف بحره الخضم “لوامع الدرر”، حاكى تدريسه “الدر النظيم”، وكان على تواضع جم وهدي مستقيم، وهو للمسترشد نعم “الدليل المستنير”، وسقط طالب العلم عنده على الخبير، فلله هو من بدر به ليل الجهالة ينجلي، ولله هو من عبد صالح منحه العلي فشكر “منَح العلي”، وورث علم هذا القطب الذي عليه رحى الدين تدور، أبناؤه العلماء الأربعة البدور، الذين بث الله بهم العلم في الصدور، اللاهين عن المزاهر والملاهي، في امتثال الأوامر واجتناب النواهي، وهذه نتف من أخبار والدهم كهف المحامد والمكارم، العلامة المجلسي محمد بن محمد سالم:
ولد العلامة محمد بن محمد سالم بن محمد سعيد بن عمر المجلسي سنة 1206هـ، وقد أشار إلى ذلك بعض تلامذته بقوله:
محمد عقب ورشا وأقام = عاما وباقي قرنه وبعض عام
وتوفي سنة (1302هـ) قال بوبكر بن احجاب الديماني:
وشبرق في ديننا ذو ثلم = لموت فيه العالم المعلم
محمد التقي نجل امحمد = سالم ما أنجبه من والد.
وذكر المختار بن حامد أنه ولد سنة 1203هـ وأنه عاش 99 سنة.
ينتهي نسب العلامة محمد بن محمد سالم إلى إبراهيم الأموي الجد الجامع لقبيلة المدلش الذي يعود نسبه إلى الخليفة العادل عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه، أجمع على ذلك النسابون والمؤرخون، والعلماء العارفون، منهم ومن غيرهم، قال العلامة محمد عال بن نعم المجلسي:
والجامع الأموي إبراهيم = وللأشج ينتمي الكريم
وقال شيخنا الشيخ علي الرضى بن محمد ناجي في رثاء الشيخ محمد سالم بن القاضي المجلسي:
نمته إلى الأشج بدور صدق = بحور لا تكدرها الدلاء
بمجلسهم علوم الشرع تتلى = لهم في كل نازلة قضاء
أولئك معشر كرموا وطابوا = ومازج فيهم العلم السخاء.
وفي كتاب “الجليس المؤنس في تاريخ وأنساب المجلس” للعلامة اباه بن محمد عالي بن نعم المجلسي ــ وهو من أهم مراجع هذا البحث ــ : “وللعالم العامل التقي الكامل الجواد الكريم العابد المنيب الشيخ علي الرضا بن محمد ناج بن سيد محمد بن محمد بن عابدين الصعيدي:
لمجلس العلم في الأمجاد ميدان = فاق الورى وهمُ للعدل ميزان
إني بحبهمُ أبأى وكلهمُ = للحلم والجود أبناء وإخوان”
وقول العلامة باب بن الشيخ سيدي في مدح العلامة القاضي الشريف بن سيد احمد بن الصبار المجلسي :
وكان من عبد شمس في الصميم ومن = عمرو العلا وصفت أخلاقه وصفا
وكان من مجلس للعلم من نفر = هم مجلس العلم أسلافا ومن خلفا
وقال العالم الأديب محمد عبد الله بن محمد آسكر في مدح الشيخ محمد عبد الحي ابن الصبار المجلسي مشيرا إلى خؤولته من الشرفاء الصعيديين:
المنكرون كرامة أوتيتها = لا يحصلون على كمال المقصد
إذ أنت جامع هاشم وأمية = وحقيقة مع ظاهر في مفرد
وقال العلامة الشريف ابن الصبار في مدح العلامة محمد بن محمد سالم:
عدل الأشج ونور آل محمد = لاحا عليه فما اختفت أنسابه
وقال الشاعر الأديب المختار بن أحمد بن محمدا الديماني في قصيدة يمدح بها حي المجلسين ببير البركة:
زر للمراد وزر لليمن والبركه = فيما أتيت لبير اليمن والبركه
بير بها مجلس العلم الكرام ثووا = وفقا لما السلف الماضي لهم تركه
قوم نمتهم لإبراهيم جدهم = سبط الإمام الأشج العدل سل دركه
آباء صدق لهم آباؤهم تركت = إرث العلى حبذا الآباء والتركه
سائل سجلات تاريخ البلاد لهم = وسل مشاع حلى للقوم مشتركه
وسل بهم خمسة الحفاظ إنهم = آووهم وأعانوهم على الحركه
حيث القرابة منهم كالجواز بها = في الوافدين تقوت تيلك الملكه ..
ولقد عرف المدلش بالعلم والكرم من قديم الزمان، وسارت بذكرهم ومجدهم الركبان، حتي صاروا في ذلك مضرب المثل، وبهم بلوغ الأمل، وفيهم محل الجذل، وطابق منهم الإسم المسمى، فهم مجلس العلم الأسمى، يقول الشيخ محمد اليدالي في “شيم الزوايا”: المجلس قبيلة زاوية يقال لها مجلس العلم هم أصل الزوايا في هذه البلاد.
وقال الشيخ أحمد بن الأمين العلوي الشنقيطي في “الوسيط ” في ذكر المدلش : هذا اللفظ هو المشهور عند العامة اليوم، وهو لقب قديم لقبت به هذه القبيلة، وهو محرف من المجالس جمع مجلس، لقبوا بذلك لأن الناس كانت ترحل إليهم في طلب العلم”، وقال في الوسيط أيضا في ترجمة الشاعر أحمد باب بن عينين الحسني: “شاعر مطرب وسليقي يقول فيعرب، مدح أبناء محمد بن محمد سالم المجلسيين بقصيدة منها:
إذا ما المشكلات دعت نزال = وهاب لقاءها الشهم الجنانا
تصدوا للطعان لها وكانوا = بني من كان يوليها الطعانا
فقبل أن يبرز القصيدة للناس، عرضها على سيبويه زمانه، أستاذنا يحظيه بن عبد الودود أطال الله حياته، وسأله عن الشهم الجنانا أتقال أم لا؟ فلما أخبره بجوازها، فرح وأبرز قصيدته”.
وقال العلامة المؤرخ الشاعر المختار بن حامد الديماني:
مجلس العلم مجلس العلم حقا = مجلس كان للثنا مستحقا
إن يكن مدح غيرهم غير حق = كان مدح قد استحقوه حقا.
وقال في مطلع رثائه للقاضي العلامة الإمام بن الشريف ابن الصبار:
أجدك لست عوض ترى الإماما = أمام جماعة العلما إماما
يقوم بصدر مجلس كل علم = مقاما كان فيه أبوه قاما
وقال يذكر الأديب حمادي بن السعيدي المجلسي:
إني حليف لنادي العلم مجلسه = وناصر لهم في المصر والبادي
وإنني حامد وابن له لفتى = من مجلس العلم أهل الحمد حمادي.
وقال المختار بن حامد في موسوعته “حياة موريتانيا” في جزء المدلش:
“المدلش تصحيف مجلس العلم أو مجلس القضاء لأن جدهم إبراهيم الأموي كان قاضي مجلس الأمير أبي بكر بن عمر اللمتوني، وكان المجتمع آنذاك إذا اختلفوا في حكم يقول إذهبوا بنا إلى مجلس القضاء ــيعنون مجلس إبراهيم- فتوسع فيه حتى قيل مجلس العلم وصار علما على بنيه. ولأنه كانت لهم عناية عظيمة بالعلم فكانوا لمدة قرون يشكلون المدرسة العليا في جنوب البلاد، وكانوا على مر الزمان يلجأ إليهم المجتمع في حل مشكلات العلم والقضاء. وكان الغلام منهم يحفظ المدونة قبل بلوغه فضلا عن المتون التي تدرس قبلها عادة. بل أقاموا ردحا من الزمن توجد منهم ثلاثمائة شاب أو أكثر يدعى كلهم محمد الأمين يحفظ المدونة عن ظهر قلب. فهذا مما يدل على اعتنائهم بالعلم كما هو معروف. وقد اشتهروا أيضا بالكرم والجود ولهجت الشعراء بمدحهم باللسانين العربي والحساني. وممن مدحهم العلامة المختار بن بونه الجكني، وعبد الله بن سيد محمود ومحمد بن يا مختار الحاجيان، وأبو بكر بن محمذن أبي بكر الديماني ومحمذن بن سيد أحمد بن الأمين المالكي، وغيرهم من الأعيان. وأما مدح لحركات لهم باللهجة الحسانية فكثر حتى جرى مجرى المثل. والمدلش: أصل زوايا القبلة، ولهم صيت عرفوا به منذ كانوا، وإليهم لجأ تشمشه عند حدوث الفتنة في آدرار. وكانت للمدلش عمارة عظيمة وكثرة حتى إن المسافر فيما بين تيرس واندكيره بأرض برويت وهي حاضرتهم لا ينزل إلا عند حي منهم بل قيل إنه يولد الغلام منهم في تيرس فيفرح له من يومه عند اندكيره من اتصال العمارة.
وقال المختار بن حامد في نفس الجزء من موسوعته عندما بلغ بطن أولاد بوسيدي المجلسيين: ومنهم محمد بن محمد سالم بن محمد سعيد بن بوسيدي، المولود سنة 1203هـ، وهو العلامة الفقيه المدرس المؤلف الورع، له الريان في تفسير القرآن والنهر الجاري على صحيح البخاري ولوامع الدرر في هتك أستار المختصر، كل هذه الثلاثة سبع مجلدات ضخام كل مجلد 626 صفحة كل صفحة 47 سطرا كل سطر يضم عشرين كلمة، وكلها بخط المؤلف، وله شرح على عبادات الأخضري سماه منح العلي، وله الدر النظيم في مدح المولى العظيم، وتأليف في الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم سماه الدليل المستنير في الصلاة على البشير النذير، وله عقيدة شرحها ابنه عبد القادر ونظم في التوحيد 200 بيتا ولم يقل من الشعر إلا:
أؤمل أن أحظى بفوزي ببغيتي = وما بغيتي إلا المقدر للوطر
عسى رحمة الرحمن تاتي بذا الذي = أؤمله من ذا الذي دونه الخطر
بجاه النبي المصطفى منبع الهدى = مفيض الأيادي عصمة البدو والحضر
محمد المختار من آل هاشم = عليه سلام الله ما ظهر القمر
وكان ذا كرامات منها: أن رجلين زجراه ليروعاه فقال روعتماني روعكما الله فمات أحدهما من حينه وخدر الآخر. وكان محمد أورع أهل زمانه. ومن كراماته: أن أولاده كلهم كانوا علماء بررة أتقياء”. اهـ من كتاب “حياة موريتانيا” للمختار بن حامد.
وتعتبر محظرة آل محمد سالم من أكبر وأشهر محاظر البلاد: قال الشيخ أحمدّ
بن احبيب اليدمسي في كتب الأعداد عند ذكر عبد القادر بن محمد سالم: “وأهل
هذا البيت من المجلس بيت علم وتدريس. رحل إليهم طلبة العلم من كل ناحية
وكل فج، وقد اتخذوا طريقة في التعليم خصوصا في مختصر الشيخ خليل
تقرب من الصور التي يضعها عبد الباقي المصري ثم الزرقاني على المختصر
وقد نقل عنهم هذه الطريقة في التعليم إلى الكبل الأستاذ يحظيه بن عبد الودود
رحمه الله تعالى”. اهـ
وقد أخذ العلامة يحظيه في محظرة آل محمد سالم عن العلامة أحمد، وأخذ كذلك عن والده الشيخ محمد بن محمد سالم كما ذكر الشيخ محمد يحي ولد سيد أحمد المجلسي في شرحه لنظم مم بن عبد الحميد في حياة يحظيه قال: “لأنه كان يحضر تدريس ابنه أحمد كالمشرف أو المقرر لمنهجيته، فإذا أعجبته منه عبارة نوه بذلك أمام الطلاب وغيرهم، وكان محمد ينوه بيحظيه ويتفاءل بمستقبله الوضاء وكان يحظيه يقدر ذلك فيخدمه ويسجل عنه من الفوائد ما تختزنه ذاكرته القوية الأمينة، وبقيت ذكريات حديثه عنه واستفادته منه تتردد في خاطره، وقد بشره بطول العمر وخدمة التلاميذ له”.
وقال عند قول الناظم: وشيخه في الفقه أحمد بنُ = محمد سالم وهو ركنُ:
“هو العلامة الأديب المدرس أحمد بن محمد بن محمد سالم المجلسي، ت1339هـ وقد تأثر به يحظيه أكثر من غيره فكان يتتبع عباراته في إلقاء الدروس حرفا حرفا، ويذكر الكيفية والمكان والزمن الذي ألقاه عليه فيه، ويحدث بحركاته وسكناته، ويقول قال أحمد وفعل أحمد وسأله أحد الطلاب يوما مَنْ أحمد فاغرورقت عيناه بالدموع وقال إذا قلت أحمد فمرادي به ابن محمد. وعندما أتاه نعيه وأنه دفن عند مكان يعرف ب “طير ألَالْ” أنشد قول الشاعر:
ألا إن عينا لم تجد يوم واسط = عليك بجاري دمعها لجمود
فإن تمس مهجور الجناب فربما = أقام به بعد الوفود وفود”.
ويروى أن العلامة يحظيه قال حينئذ: “يا گْلَيب طير أُلال اجل عنك الغب أحمد ماه محجوم”. اهـ.
ومما يروى أيضا أن العلامة يحظيه ورد عليه يوما وارد من عند آل محمد سالم، فأنشد قول الشاعر:
قلت لما أتت من الشام كتب = والليالي تتيح قربا وبعدا
مرحبا مرحبا وأهلا وسهلا = بعيون رأت محاسن سعدى.
وممن درس في محظرة محمد بن محمد سالم الشريف الصالح بدي بن سيدي محمد الشريف الصعيدي، وقد روى القاضي العلامة الشريف محمد بن عابدين في كتابه “لطائف التعريف بمناقب الإمام سيدي محمد الشريف” أن العلامة محمد بن محمد سالم رأى النبي صلى الله عليه وسلم ذات ليلة فأخبره بصحة شرف آل سيدي محمد الشريف الصعيدي، وكان بدِّ إذ ذاك عندهم فقص عليه الرؤيا قبيل الفجر في المسجد، وتواترت نفس الرؤيا من أبناء محمد بن محمد سالم تلك الليلة، كلهم يجيء فيقص الرؤيا على بدِّ بن سيدي محمد الشريف الصعيدي. وأشير إلى أن علاقة المجلسيين بالشرفاء الصعيديين نار على علم، لا نحتاج أن نعمل فيها القلم، بارك الله فيهم.
ومن أحسن ما وقفت عليه من تراجم العلامة محمد بن محمد سالم ما كتبه عنه حفيده العلامة أحمد بن النيني في مقدمة “لوامع الدرر في هتك أستار المختصر”، وما كتبه العلامة اباه بن محمد عالي بن نعم في مقدمة كتاب “مِنَح العلي في شرح كتاب الأخضري” ، وسأثبتهما ههنا مع اختصار ما.
يقول العلامة اباه بن محمد عالي بن نعم في مقدمة كتاب “منح العلي” (وقد طبعه ونشره الأستاذ الباحث المحقق محمد محفوظ ولد أحمد المجلسي):
“أما مؤلِّفُ الشَّرحِ فهو العالِمُ العلامة مالكُ أزِمَّةِ الفضائل والسالك، من طرق العلوم أحسن وأفسح المسالك، يعود نسبه إلى عبد الله بن عُمَرَ بن عبد العزيز. وكان محمد سالم من أهل العلم والفضل، وكان حافظاً لكتاب الله العزيز، له معرفة خاصة بالفقه الخليلي. وغالب سكنه في مناطق تيرِس وآكشار وآمساكًـه، وكانت هذه الأسرة ومن تفرع عنها تُمَثِّلُ الأخلاق الْمَجْلِسِيَّة من النخوة والأنَفَةِ وإباية الضيم والجود والكرم .. وفي هذه البيئة البدوية والناحية الشمالية الغربية من القطر الشنقيطي، والأسرة العلمية المتنقلة صيفاً وشتاءً، ولد لمحمد سالم بن محمد سعيد ابناه الْخَيِّرَان: أحمد ومحمد، من أمهما حفصة بنت سيدي محمد بن عبد الله بن المختار التيشيتي. وقد توفي عنهما والدهما في وقت مبكر من نشأتهما، فنشئا على النهج نفسه الذي كان عليه أبوهما وجدهما..
أما أحمدُ فتغرب عن أهله ووطنه لطلب العلم في الناحية الشرقية من البلاد الشنقيطية حتى أتقن حفظ القرآن وحصل منها على سندٍ عالٍ، وتفقه في الدين حتى صار معدوداً في العلماء والقراء والفتيان. وورث ذلك منه ابنه العلامة الجليل والشاعر الْمُجِيدُ عبدُ الله بن أحمد وزاد عليه .
وأما محمد (ويلقب دَبَّ سالم) فقد ولد في منطقة تيرس الغربية سنة ستٍّ ومئتين وألف 1206 هـ، فنشأ في كنف والديه ورعايتهما، وخصوصاً أمه السيدة حفصة بنت سيدي محمد، وبدأ – كعادة أبناء محيطه – بدراسة القرآن العظيم في وقت مبكر من حياته على والدته وخاله محمد بن سيدي محمد. وكانا غاية في الذكاء والنجابة وسرعة التحصيل. الشيء الذي جعله يتقن القرآن حفظاً وضبطاً وتجويداً وهو ما زال في عقده الأول من عمره .ثم صرف همته إلى طلب العلم في منطقته وأكب على طلبه وانقطع إليه وشغف به، وكانت له موهبة فائقة وحافظة خارقة ومثابرة على مطالعة الكتب ومراجعتها، وجد واجتهد في طلبه ليلاً ونهاراً. وقد أخذ عن بعض أعيان منطقته وفقهائها، ومن بين من أخذ عنهم: والده محمد سالم، ثم التحق بالعلامة الفقيه حامد بن أعمر البارتيلي فأخذ عنه مختصر خليل بن إسحاق بكامله.
وكان محمد متواضعاً يخدم شيخه وغيره من أهل الفضل والصلاح؛ فمن ذلك أنه اتفق أن نزل بعض مشايخ عصره مرة في الحي الذي يقرأ فيه ، والحي آنذاك في الموضع المذكور (أعلابْ جَرْكْ) فَضَلَّ جملُ ذلك الشيخ فلم يجده، فخرج محمد خفية في طلب ذلك الجمل ولم يعلم أحد بخروجه، حتى وجده فأتى به إلى الشيخ المذكور، ووجده في المسجد في جمع من المصلين وقت صلاة الظهر، وكان راكباً على الجمل بلا رحل، فلما نظر إليه الشيخ قال: الله يعطيك الِّ في التواضع [ أسألُ الله أن يعطيك ما في التواضع]، فكان محمد بعد ذلك يقول: دعا لي دعوة نلت منها.
وكانت له اليد الطولَى في الفقه وعلم الكلام، وله فنية تخصصية في مختصر خليل بصفة خاصة، وفي النصوص الفقهية بصفة عامة. شهد له بذلك معاصروه. وقد أوتي ملكة التعبير وحل المشكل وفتح خبايا النصوص. كما كان ذا معرفة فائقة بعلوم القرآن والحديث الشريف واللغة العربية، وإن كان اعتناؤه بها في مجال التأليف أكثر شمولية منه في مجال التدريس.
وكانت له مثابرةٌ على ذلك منقطعة النظير يصحبُها عونٌ من الله خارقٌ للعادة. ومن نماذج ذلك ما يُحْكَى عنه من أنه كان يذهب في رعي إبله يحمل بعض الكتب ويسير أمام الإبل في المرعى ثم يجلس في ظل شجرة أو صخرة أو جبل ويضع كتبه أمامه فيشتغل بمراجعتها والتاليف والكتابة، فإذا بعدت عنه الإبل سار حتى يتجاوزها فيجلس أمامها ، ثم لا يزال كذلك حتى يحين وقت العودة فيحمل كتبه ثم ياخذ معه “رأساً (رُزْمَةً) من نبت “اسْبَطْ” وهو شجر الحلفاء ويعودُ إلى أهله مع الليل فيتفقد أحوالهم ويصلح شؤونهم ويبدأ في التدريس للطلاب ؛ فإذا انتهى من ذلك أمر بإيقاد النار بذلك “اسْبَطْ”، وجلس للكتابة على ضوئها، فكلما خَبَتْ يأمر بعض تلامذته بتحريكها وإشعالها؛ وكان له تلميذ خاص اسمه زياد بن بابي الكُمْلَيْلِي ، كان كثير الملازمة له ، فمما يوثر عنه أنه كان إذا خبت تلك النار يقول له: “زيَّادْ دِيرْ عُودْ” (أي زِدْ حَطَباً) وذلك لزيادة ضوء تلك النار حتى يتمكن من مواصلة الكتابة. ثم لا يزال كذلك حتى يمضي ما شاء الله من الليل .ثم يبكر على التدريس للطلاب وسَدِّ حوائج أهله وإصلاح شأن إبله التي ينطلق أمامها إلى المرعى حاملاً كتبه يطالعها ويولف، حتى يحين الرواح، هكذا دواليك ..
وهكذا كان محمد بن محمد سالم رجل الدنيا والاخرة، ورغم تواضعه وورعه اللذين يضرب بهما المثل فقد كان ذا شكيمة ونخوة وقوة في إباية الضيم. وكانت له علاقة طيبة بأمراء وزعماء عصره وخصوصاً منهم: أمير الترارزة محمد لحبيب وابنه اعْلِ، وأمير آدرار أحمد بن امحمد (المشهور بأمير السلم). كما كانت له علاقة بالزعيم محمد بن الخليل الرقيـبي وبسائر زعماء قبائل الرقيبات، وأولاد اِدليم، وأولاد اللب. وكانت كلها علاقات مبنية على الاحترام والتقدير المتبادل، وكانت له عند هؤلاء جميعاً وجاهة عظيمة، يقبلون بها وساطته في كل من توجه به إليهم وفي كل من احتمى به من أهل الشوكة، فكان مرهوب الجناب محترماً عند الجميع. ومما يروَى أيضاً أن محمداً هم مرة بالحج فأخبر أبناؤه أمير آدرار أحمد بن امحمد بذلك فأرسل إليه إني سأرافقك لأداء فريضة الحج، فرد عليه محمد بأنه لا يمكن أن يسير عن هذه البلاد لما يلحق أهلها من الضرر بذلك وتعرضهم للفتن والنهب وعدم الأمان؛ فرد عليه الأمير: إن في مسيرك أنت عنها مثل ذلك وأنا مُقَلِّدٌ لك في ذلك إن سِرْتَ أسيرُ وإن جلستَ أجلسُ! ، فترك محمد المسير لذلك.
أما محظرته فقد أسسها في منطقة تيرس الغربية، وعاشت طيلة حياة صاحبها وبنيه في الشمال. ورغم قساوة الطبيعة وشح المصادر فقد ازدهرت ازدهاراً منقطع النظير، وقامت على ظهور الْجِمال في حل وترحال دائبين.. وربما وقع الخصب وازدهرت الأرض فألقت المحظرة عصا التسيار وازدهرت حياتها العلمية. ومما يروَى من ذلك أنهم مكثوا مرة سبع سنينَ في ضواحي جبل يعرف بـ”اصْطَيْلِتْ ولْ بوكًـْـرَيْنْ” في الجنوب الشرقي من “دومس” لم يغب عنهم ذلك الجبل طيلة تلك الفترة. وقد أصبح مصلى أحد منازلهم – لطول المكث وكثرة الطلاب – مستنقعاً للماء بعد رحيلهم عنه بسنين عديدة ظاهرة منه أماكن صفوف المصلين. ومما قيل في هذه المحظرة: (إن بداية محظرة آل محمد سالم هي نهاية غيرها من المحاظر)، وجعلها الشيخ سيديا الكبير المثل الأعلى في زمانها.
وفي مختلف طبقات طلابه وكثرة المنحدرين من جميع الأقطار إليها يقول العلامة الكبير والأديب الشهير: عبد الله بن أحمد بن محمد سالم، من قصيدة له في رثاء محمد:
سَلِ الزوايا وسائل عنه حسانا = واسأل دُلَيْماً وداماناً وديْمانا
سل الكرام بني يعقوب عنه وسل = مجالس العلم واسأل عنه جاكانا
سل إيدَوَعْلِ وسل ابنا أبي حسن = واسأل كرام بني أبْيَيْرِ تبيانا
والغر من تندغَ الشُّمَّ الألَى عرفوا = أفاضل الناس في اللأواء عرفانا
وسائلن عنه الاشراف الكماة بني = أبي السباع تُجَبْ سرّاً وإعلانا
سل عنه من شئت ممن أنت تعرفه = وسائلن عنه هيَّان بن بَيَّانا.
هذا وقد كرَّس محمد رحمه الله جهوده منذ نشأته إلى شيخوخته في التدريس والتعليم، وبثَّ العلم في صدور الرجال، ونشره بالتاليف والتفسير في بطون الكتب. وتقول بعض الروايات إن كتبه الثلاثة: اللوامع والريان والنهر مكث في تاليفها إحدى وعشرين سنة لكل جزء منها سنة، وإنه ابتدأ في تاليفها في العقد السادس من القرن الثالث عشر الهجري، وإن أول ما بدأ به منها لوامع الدرر. وكان رحمه الله قد كتبها كلَّها بيمينه، وكان جيِّد الخط صحيحَه، وما زالت بعضُ نُسَخِهَا موجودةً بخطِّه عند أحفادِه. وإلى بعض هذه المؤلفات يشير العلامة الشريف ابن الصَّبَّار بقوله في قصيدة يمدح بها آل محمد سالم:
ما مات من أبقى “اللوامع” بعده = و”النهر” يجري تستهل سحابه
ولَبحره “الريان” يحيي وحده = يشفي غليل دوي الغليل شرابه
ولحسبه “الدر النظيم” حلى ولم = يسبق إلى ماجاء فيه كتابه
لا تنس “وشي الأخضري” فإنه = حتم إذا حسب الخصال حسابه.
وقد قرظ هذه المؤلفات ومدحها الكثير من علماء وأدباء ذاك العصر..
وقد كان محمد رحمه الله في تعلمه وتعليمه وتصنيفه وجميع أعماله يصحبه إعجاز غريب وبركة لم ير مثلها. وكان تقيّاً نقِيّاً كريماً زاهداً حليماً متواضعاً حسن الخلق، منفقاً تعيش الفقراء والضعفاء في كنفه، ثمالاً لليتامى والأرامل عالي الهمة طائر الصيت خالد الذِّكْر ذا كرامات مُجابَ الدعوة عابداً لا يخاف في الله لومة لائم، وكان أورع أهل زمانه حتى قيل في وصفه مع بعض علماء البلاد “إن في بلاد القِبْلة مجتهداً مُطْلَقاً مُلَفَّقاً بين علماء: فقهه عند محمد محمود بن حبيب الله الإيجَيْجْبِيِّ، وعلومُ آلته عند محنض بابَه بن اعبيدْ الديماني، ولغته عند شيخنا اليعقوبي، وورعه عند محمد بن محمد سالم المجلسي”؛ ولما سمع ذاك الشيخ سيديا الكبير قال ” ذهب بها المجلسي ! ” .
وكان رحمه الله طويل القامة قوي الجسم خفيف اللحية أصفر اللون، وقد تفرغ رحمه الله في آخر عمره للعبادة والذِّكْر والتفكر .
ويقول العلامة أحمد ولد النيني مترجما لجده العلامة محمد بن محمد سالم في مقدمة كتاب “لوامع الدرر في هتك أستار المختصر”:
“كان سريع الفهم، قوي الذاكرة، مولعا بالمطالعة، مضرب المثل في القدرة على التعبير وفي الفصاحة والحفظ؛ فقد حفظ سبعة أحرف من القاموس المحيط للفيروزابادي، وقد ترك متابعة حفظه لما قال له بعضهم: إن حفظك للقاموس أقرب إلى الرياء. وكان يقول بعد ذلك: “لا أعفو عمن تسبب لي في ترك حفظ القاموس”. وكان يعتمد على نفسه في استخراج معاني “المختصر” من شرَّاحه.
ولم يزل كذلك معتمدا في تحصيله ودراسته على متابعة مطالعته الكتب دون الرجوع إلى شيخ؛ حتى قرأ في كتاب: “من أخذ الفقه من بطون الكتب غيَّر الأحكام، ومن أخذ التصوف من بطون الكتب خرج عن دين الإسلام، ومن أخذ النحو من بطون الكتب لحن في الكلام…” فعلم أنه لا بد له من شيخ فخرج يبحث عن محضرة يتحقق له مقصوده فيها فمر ببعض المحاضر ولم يلبث بها كثيرا، وظل ينتقل إلى أن أناخ راحلته بين المغرب والعشاء بمحضرة العلامة الشيخ حامد بن أعمر البارتيلي بموضع يسمى “الگليتات” إلى الشمال الشرقي من مدينة أگجوجت، وأول ما درس عليه نظما يجمع مسائل تجب في العمر مرة، منها البسملة والحمدلة والهيللة والاستغفار والتسبيح والتكبير والتعوذ. ثم كان الدرس الثاني هو: “أَقْفَافُ” الشهادات الثمانية من مختصر الشيخ خليل.. ثم “فصل الخيار” منه في الدرس الثالث، وتابع عليه الدراسة لفترات غير متوالية، ولم تتعد في مجملها نحو السنة، أكمل فيها مختصر الشيخ خليل. وقد قال هو عن دراسته هذه إنه لم تزل بينه مع مختصر خليل ظلمة حتى درسه على شيخه حامد بن أعمر فكان شيخه في الفقه، كما أخذ عن العلامة أحمد بابُ الصديقي مسائل في الفقه أيضا. وما من شك في أنه كان متبحرا في علوم أخرى كثيرة، ومؤلفاته الزاخرة بمختلف المعارف الشرعية واللغوية خير شاهد على ذلك، غير أننا لم نقف له فيها على شيخ، إلا ما قيل من أنه مكث ليالي ثلاث بمحضرة العلامة أحمد محمود بن آبيه.
وكان معتمدا على نفسه في المحضرة، مصطحبا معه ثلاث أيْنُقٍ وقيل خمسا ولما رجع إلى أهله من الدراسة على شيخه، بدأ في ترتيب شؤون الأسرة، وتأسيس المحضرة، فتزوج فاطمة ابنة خاله العالم الصالح محمد بن الشيخ سيدي محمد، وقد أنجب منها أبناءه الأربعة: أحمد وعبد القادر وحبيب الله وعبد الله، وابنته رائعة، وكلهم تخرجوا عليه علماء بارزين.
وقد استطاع أن يجمع حوله بعضا من أفراد عشيرته وأبناء عمومته وتلامذته؛ فتأسست بذلك مجموعته التي أصبحت تدعى (أهل محمد سالم)، وكان يحيط الجميع بحسن الرعاية والعناية، فيكفل الأيتام والأرامل، ويعلم الناس بحكمة وتبصر، وكان لابن عمه العلامة الحسن بن عمر دور كبير في مساعدته وعونه على القيام بهذه المهام المختلفه.
وإذا كان محمد بن محمد سالم قد برز في العلم الظاهر بمختلف فنونه؛ فإنه لم يقتصر على ذلك بل كانت له اليد الطولى في التصوف؛ فكان يجاهد النفس في صبر وزهد، ومحبة وتوكل، وقد أخذ الطريقة النقشبندية على يد شيخه وخاله الولي الصالح الشيخ محمد بن سيدي محمد التيشيتي.
سنده في الفقه: أخذ محمد بن محمد سالم عن حامد بن أعمر عن أحمد محمود بن عمر اتفغ الخطاط عن عمر اتفغ الخطاط عن القاضي بن اعلي مم السباعي، عن الفالي بن أبي الفالي الحسني عن علي الأجهوري …
كما أخذ عن الشيخ أحمد بابُ الصديقي، قال في كتابه “اللوامع” بشأن مسألة في باب “الرهن” بعد أن بين حكمها: “… كما حدثني به أحمد بابُ الصديقي عن الأمين بن المختار بن موسى اليعقوبي عن الأمين العتروسي عن عبد الدائم بن اخطيرة عن القاضي العلوي عن الشيخ علي الأجهوري”. وكان الشيخ أحمد بابُ الصديقي من شيوخ العلامة أحمدُ بن محمد سالم أخي محمد.
مكانته العلمية وأقوال العلماء عنه: لقد كانت لمحمد بن محمد سالم المكانة المرموقة علما، وورعا وتواضعا، تنبئ مؤلفاته عن معرفته الواسعة، وإدراكه العميق لمختلف المجالات الشرعية واللغوية. كما تؤكد ذلك محضرته الذائعة الصيت، التي أسسها ولما يتجاوز الرابعة والعشرين من عمره سنة: 1230هـ بعد عودته من الدراسة، فغدت هذه المحضرة وجهة لطلاب العلم من مختلف نواحي البلاد، ومن مختلف الفئات والأعمار؛ وتجاوز طلابها في بعض الفترات الألف.
وظل المجال الذي يجوبه الشيخ ومحضرته وطلابها فضاء عريضا يشمل منطقة تيرس التي ولد فيها هو وبنوه الأكرمون وفيها دفن، ومنطقة تازيازت ورمال آزفال وغور تيجيريت ورمال آكشار ومنطقة إينشيري وآمساكًـه، وكثيرا ما تمتد حركة الحي شمالا نحو آدرار سطُّفْ ومناطق الزمال والكربْ ونكجير والجويات (شرقي مدينة الداخلة) في فضاء مفتوح نحو عيون الساقية الحمراء (عيون المدلشي) .. وقد تتواصل رحلة الإنتجاع جنوبا وشرقا فتصل إلى آمخاسير وآوكار الغربي وأكًـان وآمشتيل شمال بوتلميت، كما قد تصل جنوبا إلى مشارف منطقة “الغابة” أو الأطراف الشمالية من منطقة إكيدي.
وذكر بعد الباحثين أن قبيلة واحدة من القبائل الموريتانية بلغ عدد طلابها الذين يدرسون بهذه المحضرة مائة وخمسين طالبا، بينما بلغ عدد طلاب مجموعة أخرى مائة وعشرين، في حين بلغت الثالثة مائة وخمسة. وقد وجد مختصر الشيخ خليل مكتملا من بدايته إلى نهايته بهذه المحضرة في ألواح الطلبة وفي وقت واحد، أما الفنون الأخرى التي كانت تدرس بها فلعل خير من يتحدث عنها العلامة الأديب الشريف بن سيدي أحمد بن الصبار حيث يقول من قصيدة طويلة:
بهمُ ليالي الأصبحية أصبحت = وعويص علم الدين فُكَّ حجابُه
بهمُ كتابُ الله أُتقِنَ حفظه = تأويله ، تجويده ، إعرابه
علم القواعد والأصول قد احْكِمَا = علم البيان بهم أُذِلَّ صعابه
وكذا التصوف والحديث وقد أضا = علم النُّهَى إشكاله، إعرابه
والسيرة الغراء أُكْمِلَ عِلْمُهَا = غزواته ، وبعوثه ، أنسابه
وكان الشيخ محمد بن محمد سالم يجلس للتدريس مبكرا، مرتبا الإقراء بادئا بعلم الكلام (التوحيد) ثم بالفقه، ثم باقي العلوم الأخرى، وكانت هذه المنهجية متبعة في محاضر أبنائه الأربعة، وأبنائهم. وكان رحمه الله تعالى، يجمع بين التدريس، والتأليف وترتيب شؤون مجموعته ولمكانة هذه المحضرة كان بعض العلماء ينتقل إليها لإكمال دراسته المتخصصة.
بعض أقوال العلماء عنه: لقد أشاد العلماء، والأدباء بهذا الشيخ وبما حباه الله به، من علم وورع وخلق، وتتعدد أوجه التعبير عن ذلك من خلال المؤلفات المتعددة والمحضرة المشهود لها بالامتياز، والتدريس المرتكز على غزارة العلم، والاستخدام الذكي لملكة التعبير، والاختيار الموفق لطريقة الإلقاء، وكان ذلك مدعوما بتسخير الغوص في بحر المدارك؛ لاستخراج مخبآت نفائس المعارف؛ ذلك ما كثر التنويه به شعرا ونثرا، من أهل الفضل والعلم، الذين يدركون قيمة التزكية ويقدرونها حق قدرها، ومن ذلك على سبيل المثال:
شهادة العلامة الشيخ سيدي الكبير له بأنه: أعلم أهل القطر الشنقيطي؛ وذلك عندما أوفد إليه الشيخ محمد ابنه أحمد ليتابع عليه الدراسة؛ فكان الشيخ سيديا لا يسأله عن شيء إلا وجده خبيرا به، فقال له: “ارجع إلى والدك فلن تجد أنفع لك منه ولا أعلم في هذا القطر الشنقيطي”.
قول الشيخ العلامة محمد عبد الله بن البخاري بن الفلالي: “إن مدرسة الظاهر في زمنه من فقه، وتوحيد كانت قيادتها لابن محمد سالم المجلسي”، كما وصفه بقوله: “شيخ الإسلام في الظاهر والباطن” ..
قول العلامة الشيخ محمد المامي بن البخاري:
نهج اللوامع مثله مفقود = بين الأنام ومدعيه حسود
جادت به من نجل سالم فكرة = ما إن لها في العالمين وجود
أبدى غوامض من خليل مالها = من قبله في السالفين ورود
كنت المبجل والوحيد ومن له = بين الورى في الصالحين خلود
لا زلت تقتاد العلى بزمامه = بطل النوائب والرجال رقود
تترى إليك من الورى هاماتها = ولدى فنائك ركع وسجود
قول العلامة الشيخ ماء العينين بن الشيخ محمد فاضل:
لمعت لوامعُنا اللوامع كالدرر = فسقى لنا الريان ريان النهر
بحر تقاذف دره من موجه = أكرم ببحر موجه كلا درر
وقوله لما قدم عليه محمد، وابنه أحمد في زيارة:
لما حللتم بنا قلنا بأجمعنا = يا مرحبا ذات تبذير وإسراف
ألف وألف وآلاف ويتبعها = من الترحب ألف ألف آلاف
قول العلامة الشريف بن سيد أحمد بن الصبار من قصيدة طويلة:
مزج الشريعة بالحقيقة حلة = إذ صار قفرا لا يحل جنابه
عدل الأشج ونور آل محمد = لاحا عليه فما اختفت أنسابه…
قول العلامة الشبيه بن ابُّوهْ:
بنو محمد الهادي الأمين وأبناء الأشج، وأخيار من أخيار
هم حافظو العلم نقاد العويص به = ولا ثوى فيهم للجهل والعار
هم حافظو العلم لا يالونه عملا = وتاركو الشر آبي الضيم للضاري
ونحوهم فاطلبه إن عندهم = في المذهبين لإيراد وإصدار
إن “الثمان” لفي أصدافها درر = “لوامع” “واضح” “ريانها” الجاري.
قول العلامة محمذ فال بن محمذ بن أحمد بن العاقل (ببها) علما:
طربتُ شوقاً وما شوقي إلى الحور = ولا اللمَى بذوات الدَّلِّ والخَفَر
ولا لربعٍ بذات الضَّالِ من أجَلى = ولا أجارع من أنجادِ ذي عشر
لكن طربتُ إلى روضٍ كساهُ أبو = عذر المسائل ألواناً من الزَّهر
من كان ذا نظر ألهته رؤيته = وطيب أزهاره عن ذلك الوطر
فزُرْهُ إن شئتَ تبصرْ كلَّ ما عَجَبٍ = بين “اللوامع” و”الريان” و”النهر”
يقول العلامة محمد الامين بن امينه اليعقوبي من قصيدة يقول فيها:
أنوار وجهك بين الناس بدر “يَدٍ” = بين النجوم بوقت الصحو في السحر
إذ حزت ما حزت من نحو ومن لغة = ومن بيان ومن ذكر ومن أثر
وفقت أهل التقى والعلم قاطبة = وحزت بينهم “لوامع الدرر”
وصمت لله لا للغير محتسبا = وخصك الله بـ”الريان” و”النهر”…
قول العلامة محمد عبد الجليل بن حرمه العلوي:
وإني لمشتاق مزار محمد = وأبنائه الغر الكرام النقارس
وأشتاق مرْأى منهم كل ساعة = فمرآهمُ من موجبات الفرادس…
قول العلامة محمد بن محمودا بن سيدي أحمد:
أما ونصيص اليعملات الرواسم = تجوب الفيافي داميات المواسم…
لفي مجلس العليا محمد سالم = سجايا عُلى من قبل عقد التمائم…
قول العلامة محمد مولود بن أغشممت:
فكم شرحوا من غامض قبل شرحهم = وكم أربحوا فهما إلى فهمهم تَجَرْ
وكم أوضحوا من مشكل وكم افصحوا = وكم نصحوا لله في السر والجهر
وكم ذل للأفكار للقهر منهم = عزيزات علم لا تذللها الفكر
وكم هذبوا ما كان غير مهذب = وكم جددوا من داثر طالما اندثر
فسل غائبا أو حاضرا عن حلاهم = وليس الذي قد غاب مثل الذي حضر
نعم وسل “الريان” تخبر وإن تشأ = سل “النهر الجاري” فيخبرك النهر
تلامذته: كان من أوائل تلامذة الشيخ محمد بن محمد سالم أبناؤه الأربعة، أحمد (ت 1328هـ) وعبد القادر (ت 1337هـ) وحبيب الله (ت1337 هـ) ثم عبد الله (ت 1329هـ)، الذين تخرجوا على يده وكان من فضل الله أن عاشوا معه ودرسوا في حياته، وكانوا يساعدونه في التدريس في المحضرة، لكثرة الطلاب الوافدين من مختلف الجهات، وبخاصة ابنه الأكبر أحمد الذي قال للشيخ الوالد لما بلغ: “سأقوم عنك بما يقبل النيابة من أمور الدنيا والآخرة لتتفرغ للتأليف والعبادة”. وكان التمييز بين تلامذة الشيخ وتلامذة أبنائه وخريجي هذه المحضرة متعذرا، وقد ينطبق ذلك على الأبناء وأبنائهم .. وهذه أسماء بعض العلماء والشيوخ الأجلاء من تلامذة الشيخ محمد بن محمد سالم طبقا للمراجع التي وقفت عليها، وما هو معروف عندنا:
الشيخ سيد محمد بن الداه بن داداه الأبييري، العلامة محمد العاقب بن مايابى الجكني، العلامة محمد مولود بن أغشممت المجلسي، العلامة محمد بن عبد العزيز بن الشيخ محمد المامي الباركي، العلامة محمد عالي بن سعيد الملقب (مع) الحبلي، العلامة محمد عبد الله بن يحظيه القناني مؤلف “فتح الجليل في شرح خليل”، العلامة سيدي أحمد بن أبو بكر، العلامة المختار بن محمد سعيد الملقب (ابياه) الحبلي وقد نسخ كتاب اللوامع في فترة دراسته وكان موجودا في محضرتهم، العلامة صلاحي بن الشيخ محمد المامي الباركي، العلامة الشريف بن الصبار المجلسي، العلامة سيدي بن أحمد بابُ بن الامين الصديقي اليعقوبي، العلامة الشيخ محمد عبد الحي بن الصبار المجلسي، العلامة الشيخ عبد المعطي السباعي، العلامة محمد أفلواط بن الخطاط بن أفلواط الباركي، العلامة حم الامين بن سيدي يوسف الزركي، العلامة الشيخ أحمد بابَ بن البخاري الباركي، العلامة عبد الحي بن احميد الموسوي اليعقوبي، العلامة محمد عبد الله بن زين الملقب ديدي القناني، العلامة أحمد فال بن المختار السباعي، العلامة محمد بن أحمد محمود بن العيدي الأبييري، العلامة زياد بن بابي الكمليلي، العلامة محمد محمود بن احظانه الحسني، العلامة أحمد بن ابد بن أحمد، العلامة محمد عبد الله بن البخاري بن الفلالي الباركي، العلامة أحمد باب بن عينين التندغي، العلامة أحمد بن ابيه التندغي، العلامة محمذ آب بن احميد الموسوي اليعقوبي، العلامة (اددو) محمذ فال بن أحمد مولود المباركي، الشيخ سيدي بن النعمان بن سيدي محمد.
منهجه في التأليف: إن لمحمد بن محمد سالم منهجا اتبعه في مؤلفاته، يتركز في معالمه الأساسية على سمات متعددة منها: أنه بعد البسملة والصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم، يفتتح معظم مؤلفاته بالبيتين (ولم أقف على قائلهما):
الله عظم قدر جاه محمد = وأناله فتحا عليه عظيما
في محكم التنزيل قال لخلقه = صلوا عليه وسلموا تسليما
ثم يذكر نسبه، بعد حمد الله تعالى، متبعا إياه بسجع يمهد به لموضوع التأليف، ثم يتناول المقصود فإن كان يحتاج إلى مقدمة أتى بها وقد تكون بمثابة كتاب مستقل كما هو الحال في مقدمة كتاب “الريان في تفسير القرآن التي اشتملت على ستة وثلاثين ما بين باب وفصل، ضمنها جميع علوم القرآن، والكثير من العلوم الأخرى .. وفي النهر الجاري على صحيح البخاري جاء بمقدمة تناولت جميع علوم الحديث دراية ورواية، واشتمل اللوامع على مقدمة تناولت فضل العلم، وشراح المختصر والعقيدة الإسلامية مبينة الإيمان والإسلام والإحسان وكل ما يتعلق بذلك. وكان المؤلف يستحضر دائما جسامة المسؤولية وخطر الأمانة، فقد قال: “ما كتبت كلمة في هذه المؤلفات إلا وأنا متذكر أنني سأسأل عنها غدا بين يدي الله تعالى”.
بعد اكتمال مؤلفاته العظيمة النفع، وبعد عطاء متميز وتفرغ للعبادة، انتقل الشيخ محمد بن محمد سالم إلى الر فيق الأعلى، وكان ذلك يوم الجمعة بعد صلاة الظهر آخر يوم من شهر ذي الحجة (1302هـ)، وذلك ما يرمز إليه بالحروف الشيخ محمد الخضر بن المكي بقوله:
في عام شسب قد توى المجدد = نجل محمد سالم محمد
ولما توفي بموضع يسمى “آمكن” بين منطقة تيرس الغربية و”الكرَب” قام أبناؤه وتلامذته الكثيرون بنقله حملا على الأعناق إلى مكان يسمى “دومس” في منطقة تيرس، يبعد حوالي 85 كلم من “آوسرد” التابع لمدينة “الداخلة”. والله الموفق”. اهـ من مقدمة اللوامع.
وهذه قصيدة القاضي الشريف بن الصبار في مدح آل محمد سالم:
من آن عن سبل الضلال ذهابه = في الغي لاح ذهابه وإيابه
لمنازل عفت الرباب رسومها = من بعد ما كانت بهن ربابه
وبها صواحب للفتاة نواعم = وأعزة شم الأنوف صحابه
ليت الزمان أعادها وأعادهم = وعلي بالأجر الجزيل ثوابه
تلك المنازل لا منازل مثلها = خلع الصبا من بعدها أربابه
مكث الزمان بهن جل شبابه = ومتى نئاها الحي تم شبابه
أسباب مرعى اللهو كن قوية = واللهو الان تقطعت أسبابه
أبواب وصل الغانيات قد اغلقت = من بعد ما قد فتحت أبوابه
أصحاب كل متيم عنه انثنوا = من بعد ما جنحت له أصحابه
آداب ذلك الامر قد تركت سدى = من بعد ما رعيت له آدابه
هذي ذنوب البين غير مشارك = حرقت ذياب البين ثم كلابه
يا منزلات الحي جاد لك الحيا = هطاله وكافه سكابه
فسقيت من نوء الثريا مدجنا = قد ازيح عن مكنونه جلبابه
وبكى السماك عليك كل عشية = فكأنما نعيت له أحبابه
حتى امتلأت وعاد روضك ناضرا = تبدو به أزهاره ورضابه
مثل امتلاء بني محمد سالم = من كل بحر قد يعز شرابه
من أبحر العلم التي وجدوا بها = درا وما ظفرت به طلابه
أو أبحر الدين التي قد أذهبوا = منها غليلا لم يطق إذهابه
أو أبحر النسب الذي قد زانه = حسب وذا قد زانه أنسابه
أو أبحر الكرم الذي لم يحمه = عام الرمادة أن تفيض سحابه
أو أبحر الحلم الذي لم يثنهم = عنه طعان أخي الأذى وضرابه
أو أبحر الهمم التي شادوا بها = للدين ربعا لم يطق إخرابه
قوم إذا رجف العضاه رأيتهم = ماوى لكل من انقضت أسبابه
واذا أتى عام يروق عليهم = باب التواضع سده بوابه
وعطاؤهم بالمن غير مكدر = وبه العطا قدما تمر عذابه
أبناء من يحمي سبيل محمد = أن يستباح فلم يزل يجتابه
أبناء من ألقت إليه زمامها = بين الورى خيل العلى وركابه
أبناء من حل الزمان بفعله = وبقوله قد أوثقت أطنابه
أبناء من يسع الخلائق بحره = فينال ما قد رامه مجتابه
أبناء من تلفيه طول حياته = للخل عذبا والحسود عذابه
عز المهابة لم يزل مترديا = لما غدت مخلوعة أثوابه
بعض يهاب لما رجا من نيله = والبعض للمرهوب منه يهابه
لو خلدت غر المكارم سيدا = لم تلقه يوما عليه ترابه
لو كان يفديه الأنام من القضا = لقضى الأنام كهوله وشبابه
ورث المكارم كابرا عن كابر = والمجد قد بنيت عليه قبابه
يا نعم معترك الأنام عفاته = والمستجير ومن بدت أوصابه
وجهوله إذ انشبت اظفارها = فيه الجهالة فانمحت اندابه
ومريده لما تحجر قلبه = فغدت به مثل الحرير صلابه
والجار إن طرد الورى جيرانه = والدهر قد لصقت به أنيابه
والغانيات تقنعت بدخانها = وأخو الجناب قد استبان جنابه
بجواره أضحى يسير بشرطة = من فيضه يجري لديه عبابه
مزج الشريعة والحقيقة خلة = إذ سار قفرا لا يحل جنابه
عدل الأشج ونور آل محمد = لاحا عليه فما اختفت أنسابه
والمشكلات إذا وردن حياضه = أضحى قيود المشكلات جوابه
بعد الحمام أنيل عمرا ثانيا = من قال حي لن يلوح كذابه
ما مات من أبقى “اللوامع” بعده = و”النهر” يجري تستهل سحابه
ولَبحره “الريان” يحيي وحده = يشفي غليل دوي الغليل شرابه
ولحسبه “الدر النظيم” حلى ولم = يسبق إلى ماجاء فيه كتابه
ولحسبه أنجابه شرفا وقد = أبدت لنا إنجابه أنجابه
من مثل أحمد في الخصال جميعها = والشطر في إيجازه إطنابه
لازال واكف رحمة بضريحه = يلقي المراسي دائما تسكابه
من مثل عبد القادر الجيلاني إذ = حفظ الهدى والغي عس ذيابه
أترى حبيب الله ذا مثل وقد = أحيى الليالي حين نام صحابه
من مثل عبد الله إن أربا أتت = تنساب أو دارت به طلابه
غر المحامد نحوهم قد أهديت = والمجد أجمع قد بدا إهذابه
إن العويص إذا رأوه كأرنب = قد اتته من قبل السماء سحابه
طابوا وقد طابت لهم أصلابهم = ويطيب من طابت له أصلابه
بهم ليالي الأصبحية أصبحت = وعويص أصل الدين فك حجابه
بهم كتاب الله أتقن حفظه = تجويده تاويله إعرابه
والسيرة الغراء أحكم علمها = غزواته وبعوثه أنسابه
علم القواعد والأصول قد احكما = علم البيان بهم أذل صعابه
وكذا التصوف والحديث وقد أضا = علم النهى أشكاله وحسابه
الله بارك فيكم وعدوكم = أضحى بكم مسلوبه أسلابه
لا زلتم غيظ الحسود ومنتهى = ما يرتجيه من استبان حسابه
عز الورى أنتم محط رحالها = والكل ناء بما أنيل ركابه
راجي علومكم حقائبه امتلت = راجي نوالكم تروق نهابه
راجي أمانكم استحال مؤمنا = والمرتجي أدبا بدت آدابه
راجي العلى إن جاء أصبح عاليا = راجي الهدى إن جا رست أطنابه
حسبي وعشر العشر ما استوعبته = قدر الحصى يعيي الورى استيعابه
فمطيل مدحكم يكون مقصرا = أمر تضمن نفيه إيجابه
لكن أطال قصيدتي ما قاله = نجل الحسين وعادتي استعذابه
ومديحكم طام ولكن القريض بخمره ماغادرت أعنابه
أزكى الصلاة به يخص محمد = قطب الكمال وآله وصحابه
ما تم أمر يرتجى إتمامه = من بعد ما قد كملت أسبابه.
رحم الله السلف وبارك في الخلف. كتبه محمد ولد امد أمين الثقافة في المنتدى العالمي لنصرة الرسول صلى الله عليه وسلم.
وسيتواصل بحول الله تاريخ موريتانيا الإيجابي بأمر من الشيخ علي الرضى بن محمد ناجي أيده الله بحفظه وعونه ونصره.
شاهد أيضاً
العلامة حبيب الله بن القاضي الإديجبي / تاريخ موريتانيا الإيجابي
بسم الله الرحمن الرحيم . الحمد لله رب العالمين . صلى الله وسلم على رسوله …