بسم الله الرحمن الرحيم . الحمد لله رب العالمين . صلى الله وسلم على رسوله الأمين وعلى آله وصحبه أجمعين. وبعد فإن تاريخ موريتانيا الإيجابي يتواصل بأمر من الشيخ علي الرضى بن محمد ناجي رئيس المنتدى العالمي لنصرة الرسول صلى الله عليه وسلم، حفظه الله ورعاه، وسننشر اليوم على بركة الله ترجمة العلامة حبيب الله بن القاضي رحمه الله تعالى ونفعنا ببركته، وبالله تعالى التوفيق، والله المستعان وعليه التكلان، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم .
العلامة حبيب الله بن القاضي الإديجبي
يعتبر العلامة المشهور والمدرس المذكور حبيب الله بن القاضي من أشهر شيوخ محظرة الكحلاء وأحد مؤسسيها المعروفين، وقد اشتهر بالكحلة واشتهرت به فربما قيل كحلة حبيب الله وحبيب الله الكحلة. ولذلك الارتباط ثم لدور محظرة الكحلاء الريادي المشهود والمشهور في التعليم المحظري في بلادنا، فإننا سنأتي بتعريف عام بمحظرة الكحلاء وأختها الصفراء ومحظرة الفرع، والتعريف بشيوخها، إن شاء الله تعالى . الله المستعان .
لقد انتشر ذكر محظرة الكحلاء وذاع، وعم النفع بها وشاع، وفاح أريج رياضها الغناء وضاع، ضربت إليها أكباد الإبل ضربا، وأمها الطلاب شرقا وغربا، قلعة من قلاع الإيمان، وكهف كهوف الإحسان، بث بها العلم في صدور الرجال، وتمسكوا بأحسن الخلال، وتعلموا بها الآداب، ومتوا للمعالي بالأسباب، كم طالب بها تبحر، وشيخ بها تصدر، حتى أصبح في الناس كالقمر، وإن شيوخها لهم الشيوخ، أولوا السبق في المعارف والرسوخ، من لم يرضخوا لجند الغي أي رضوخ، هم المبرزون في الفتوى، والمتدثرون بالتقوى، والمتبعون لمنهج السلف، والعارفون من أين تؤكل الكتف، العالمون بخطة القضاء، والسابقون في ميادين العلاء، أؤلئك شيوخ الكحلاء والصفراء، الإديجبيون الأعلام، أرباب العقول والأفهام، السادة الغر الكرام.
على ربوة تعرف بزيرة التلاميذ تطل على بير قديمة من آبار آمشتيل تعرف ب “آغدكل” على بعد حوالي 80 كلم شمال شرقي مدينة آلاك في منطقة البراكنة تقع محظرة الكحلَ يرعاها معشر الفضل والكرم والعلم معشر قبيلة اجيجبه الرائدة في المجال الثقافي في بلادنا، واجيجبه قبيلة من قبائل الزوايا عريقة في أعماق التاريخ، سجلها حافل بالمجد والشهامة والسيادة والزعامة. وهم أحد فروع لمتونه المشهورة. ولها كلمة نافذة ومشاركة في أحداث مهمة من تاريخ البلد كشربب مثلا، وعرفوا بالمثابرة على طلب العلم، ومن المطرد عند الناس أنه كان من عادة أهل الشيخ القاضي (اجيجبه) أن لا يتسرول الشاب منهم حتى يتم دراسة مختصر خليل.
يصفهم الشيخ سيديا بن المختار بن الهيبة في رسالته “الميزان القويم والصراط المستقيم” فيقول: “إلى جماعة السادة الأكارم، والقادة المعالم، أولي الهمم العلية، والأحوال السنية، والأعمال الرضية، المعتنين بإقامة السنة الأحمدية، والباذلين وسعهم في إصلاح الأمة المحمدية، أعني جماعة أحبابنا الصلحاء، وإخواننا الفصحاء، الذين هم اديجبه ..”
وفي ذكر مآثرهم يقول العلامة المؤرخ الشاعر المختار بن حامد:
أسر إذا لقيت إديجبيا = وسلم وهو مبتسم عليا
وبادرني بترحيب وبشر = بنغمة ماجد طلق المحيا
فتسليم الكرام له رنين = شهي في المسامع كالحميا
ولكن الرنين يكون أشهى = إذا كان الكريم إديجبيا
عشير بالتقى والمجد حلي = وحسبك بالتقى والمجد حليا
هداهم والندى فرسا رهان = بهم جريا إلى العلياء جريا
فكانوا حاتما كرما ومعنى = وكانوا مالكا والشافعيا
فما كان الهدى فيهم خفيا = وما كان الندى فيهم خفيا
حمدت لقاء من ألقاه منهم = ولا أنفك أشتاق اللقيا
وأيهم لقيت بأي يوم = فذاك اليوم أبعث فيه حيا
فحيا الله حيهم وأسقى = أراضيهم، وزادهم رقيا.
وسبب إطلاق هذا الاسم على هذه المحظرة هو لون الخباء الأسود “الخيمة” تمييزا لها عن بنتها الصفراء الآتي ذكرها، إنها خيم موريتانية أصيلة نسجت من صوف الضأن … أما الصفراء فسميت بالإسم للونها الأصفر أو الرمادي على الأصح حيث كانت من وبر الإبل. واقترنا في الإسم لأن الصفراء من الكحلاء. وهما في منطقة البراكنة.
وقد غطت الكحلة مدة زمنية تقارب أربع مائة سنة أي من حوالي سنة ألف هجرية إلى 1368هـ.
وأول عميد عرفته المؤسسة قبل أن تكون كحلاء وصفراء هو حبيب الله بن المختار نلَّ وقد استشهد والده في حرب شربب الشهيرة. ثم إن المحظرة تأثرت بتلك الظروف مدة من الدهر، واستمر ذلك إلى عهد العلامة أشفغ الفقيه أحمد باب بن الحاج الإجيجبي، وقد أخذ عن شيخ الشيوخ الفاضل بن أبي الفاضل الحسني الذي أخذ عن العلامة علي الأجهوري شيخ الأزهر في القرن العاشر، وقد اشتهر بالتفاني في خدمة شيخه الفاضل وكان الفاضل يؤثره في حصص التدريس.
ويرى المؤرخ المختار بن حامد أن أحمد باب هو أول مؤسس مؤسسة تعليمية بمنطقة البراكنه. وهو الذي أرسى دعائم الكحلاء، قال عنه الطالب محمد بن أبي بكر في فتح الشكور: “كان أحمد بابا رحمه الله فقيها مشهورا مدرسا يدرس مختصر خليل مشهورا بمعرفته ترده التلاميذ لقراءته ويحصلون وينتفعون ، من العلماء العاملين الصالحين ولم أقف على شيخه في خليل ولا تاريخ وفاته.
بلغ أحمد باب الغاية في معرفة الفقه واجتمع في مدرسته الكثير من الطلبة، وسئل شيخه الفال عن تلامذته أيهم أفقه فقال: أحمد باب. كما ذكر المختار بن حامد.
قال عنه المؤرخ صالح بن عبد الوهاب في وثيقة: شيخ الشيوخ بالعلم والمعارف والرسوخ الفقيه أحمد بابا.
ثم كان شيخ الكحلة من بعده الحاج بن أحمد باب، ويساعده في التدريس أخوه القاظي وابنه الفال وحبيب الله المترجم له.
وفي مدح آل أحمد بابو بن الحاج الإديجبيين ( أساتذة الكحلاء والصفراء ) يقول العلامة فتى بن فال الحسن ــ كما في ديوان الشقرويات ــ :
عينُ جودي فما عليك عتاب = لا ولا عارَ إن عراك انسكاب
واندُبي معهداً وربعاً مُحيلاً = خلفته بعد الحلول الرباب
بعد لَأْيٍ ظفرتُ منه بنُؤي = وبسُفع قد أسأرتها السحاب
فاربعي حول ربعها واسأليها = ليت شعري ما ذا يكون الجواب؟
خبريها بأنني لست أسلو = ربع أسماء أو يشيبَ الغراب
غير أن الركاب مني أنيخت = حيثما تقصُد المناخَ الركاب
عند أهل القضاء من كلّ عصرٍ = والفتاوي من آل ( أحمدَ بابو )
أنجم كلما تساقط نجم = بزغ النجم إثره والشهاب
كيف أحصي مآثراً أو خصالاً = حاولتها الحكام والكتاب
إن من ينأ عَنْهُمُ بعد ما قد = قربوه من دورهم لمصاب
وسلام عليكمُ آل بيت = طاب منه النِّجار والأحساب.
طلب العلامة حبيب الله بن القاضي العلم في محظرة والده الكحلاء، ولم يتخلف عنها للطلب إلا ما قيل عنه إنه لما وصل في شرحه لمختصر خليل قوله “وخصصت نية الحالف وقيدت” ارتحل يطارد محظرة المختار بن بون، ويقال إنه زاره فترة المقيل واستفسره عما أشكل عليه في التخصيص والتقييد في ظل نص المختصر كما لو كان أحد الطلاب بالمحظرة، وخرج خفية ونشط عقال بعيره وركب، وبعد الظهر في حلقة الدرس المعتادة لفت انتباه الأستاذ المختار أسئلة الطالب الذي درس نص “وخصصت نية الحالف” وأسئلته القيمة، فلم يعثر على طالب في ذلك الباب ذلك اليوم فتأوه المختار ــ على ما يقال ــ وقال: سرق ابن الاجميلية منطقي كنت أتوقع أن يتعثر وتبقى ثلمة في كتابه، لو عرفته لما درست له حتى يدخل بقرته، يعني يتتلمذ عليه.
ولقد ازدهرت في أيامه الكحلة ازدهارا منقطع النظير، وغصت بالطلبة مما سمح بفصل جناح منها عنها سمي بالصفراء.
وقد أثنى على الشيخ حبيب الله الكثير من العلماء والمؤلفين منوهين بعلمه وفضله.
قال عنه المختار بن حامد في الجزء الثقافي من “حياة موريتانيا”:
حبيب الله بن القاضي الفقيه القاضي المفتي المؤلف، كانت مدرسته غاصة بالطلبة حتى إن الدراسة اليومية كان يؤخذ فيها مختصر خليل برمته، وتسمى مدرسته بالكحلاء، لأن أخبية الطلبة من الصوف الأسود، تصدر فيها رجال من شتى القبائل.
وقال عنه ميلود المختار خي الديماني في كتابه “عيون الإصابة في مناقب الشيخ محنض باب” في ذكر معاصري شيخه محنض باب: “ومنهم حبيب الله بن القاضي اديجبي مؤلف طرة المختصر التي شاعت وذاعت وتوفي سنة 1241هـ”.
وقال الشيخ أحمد بن الأمين العلوي في الوسيط عند ذكر المؤلفين الشناقطة: “وحبيب الله بن الشيخ القاضي الأجيجبيُّ، شارح الشيخ خليل. ويعرف شرحه، بمعين حبيب الله”.
وقال النابغة الغلاوي في نظم بوطليحيه:
وطرة ابن القاضي الاولى لعبت = أيدي التلاميذ بها فذهبت
أخبرني الشيخ حبيب الله = بذاك وهو ثقة والله .
وقد ألف العلامة حبيب الله مؤلفات منها طرة في علم الفروض “التركة”. وشرح لرسالة ابن أبي زيد. وأشهرها: “المعين” وهو شرح لمختصر الشيخ خليل في الفقه المالكي ويعرف عند الطلاب بمعين حبيب الله، مثلما اشتهر “شفاء الغليل” شرح العلامة ابن خالنا لمختصر خليل بمعين والد، ومن الطرف ما يروى من أن قافلة حلت قرب مضارب حي انيفرار المشهور بالعلم وجاء رسولهم إلى أهل أحمذ بن زياد ــ العلامة المشهور ــ يطلب “اماعين”، وشرب الشاي آنذاك لم ينتشر كثيرا بين الناس، فأجابه الشيخ: أيهما تريد معين والد أم معين حبيب الله؟.
وممن أخذ عن حبيب الله: العلامة الشيخ سيدي بن المختار ولد الهيبة، والعلامة غالي بن المختار فال البوصادي، والعلامة النابغة الغلاوي والعلامة محمد ولد عبد الدائم وغيرهم.
توفي العلامة حبيب الله بن القاضي سنة 1241هـ كما ذكر ميلود بن المختار خي في عيون الإصابة وغيره.
وقبره مشهور بمزار بير بوطلحاية المعروفة. رحمه الله تعالى ونفعنا ببركته.
وخلفه في محظرة الكحلاء ابنه العلامة المشهور محمد محمود بن حبيب الله الملقب “ديد”، أمه رابية بنت محمود ولد الحاج الاديجبية، ولد سنة 1205هـ. أخذ العلم عن والده حبيب الله في محظرته الكحلاء ولم يخرج عنها لطلب العلم.
يقول الأستاذ محمد المصطفى الندى نقلا عن المؤرخ المختار بن حامد: “قيل إن محظرة القبلة من موريتانيا بمجتهد ملفق من: فقه محمد محمود بن القاضي الاديجبي، ومتمات محنض باب بن اعبيد، ولغة شيخنا بن محنض اليعقوبي، وورع محمد بن محمد سالم المجلسي.
وقد أثنى عليه الكثير من العلماء والمؤلفين، يقول عنه ميلود بن المختار خي الديماني في “الإصابة في مناقب محنض بابه” في ذكر معاصري محنض باب عاطفا على والده حبيب الله: “وابنه الشيخ محمد محمود والشبل في المخبر مثل الأسدِ، كان قاضيا في أرض البراكنه وما والاها، وكان إماما في الفقه منصفا عارفا بمآخذ المسائل، خبيرا بخطة القضاء، أديبا لبيبا، انقطع به قول الحق في بلاده، وفضله لا ينكره أهل عناده، ألف تآليف جيدة، وقيد تقاييد مفيدة، وانتقد ما استحق النقد من طرة والده، وذلك دليل على اعترافه بالانقياد للحق وعلى إنصافه، لقيته مرارا وأخذت عنه فلم أر أحسن منه جوابا ولا أدرى بما يكون صوابا، خبيرا بقواعد المذهب، حسن الاستخراج طبيبا بأدواء الفتاوى والأقضية، عارفا بالمزاج، وربما أجابني في مسألة يقول كل كتاب تكلم عليها بديهة لطول باعه في الكتب. وقال شيخنا محنض بابه إنه كان أفقه من والده رحمه الله، وكفاه ذلك”.
وقال عنه العلامة المؤرخ المختار بن حامد في في موسوعته حياة موريتانيا: “محمد محمود بن حبيب الله بن القاضي الفقيه القاضي المؤلف استمرت المدرسة عنده كما كانت عند والده أو فوقه، وتخرج عليه عدد من العلماء من شتى القبائل فضلا عن قبيلته”.
وقال في ترجمة محنض باب:” ولقي محنض بابه مُحَمَّد محمود بن حبيب الله بن القاضي الإيجيجبي، واتفقا فيما بحثاه من مسائل الفقه ما عدى ثلاث مسائل. منها المحار الذي قال مُحَمَّد محمود بجواز التيمم عليه لأنه من جنس التراب بدليل أن الأرض لا تأكلها، ورد عليه محنض بابه، بأن عجب الذنب لا تأكله الأرض ولا يتيمم به. ومنها التربة اللاصقة بالجبهة فقد قال مُحَمَّد محمود إنها غير حائل لأنها من جنس التراب وقال محنض بابه إنها حائل”.
وفي “المجموعة الكبرى” للدكتور يحيى ولد البراء: “محمد محمود بن حبيب الله بن القاضي (ت. 1277هـ/1860م): فقيه متمكن وقاض معروف من قبيلة إيجَيْجبَ (إيجَاتْفَاغَه). يعد أحد أبرز مشايخ مدرسة الكحلاء ، وأهم فقهاء المنطقة برمتها. أخذ عن والده وعن سيدي عبد الله بن الحاج إبراهيم العلوي. وعنه أخذ العلم الجم الغفير من العلماء البارزين كالخرشي بن عبد الله، وميلود بن المختار خي الديماني، ومنداهي بن محم التندغي، والمختار بن أغلمينت الديماني، وأحمد بن محمد عينين بن أحمد بن الهادي اللمتوني (الذي قضى معه نيفا وعشرين سنة)، والمختار فال بن إبراهيم فال البركني (من أولاد عبدلّ)، والأمين بن الشيخ محمد الحجاجي. حاول إقامة الحدود وتطبيق أوامر الشرع في منطقته ودعا لذلك مع مجموعة من العلماء. غير أن مجموعة أخرى من العلماء عارضت ذلك المسعى لسيبة البلاد وافتقارها إلى حاكم وازع، منها الشيخ سيديّ ولد المختار ولد هيبه الذي كتب لهم في ذلك الصدد رسالة فقهية طويلة عنوانها: “الميزان القويم والصراط المستقيم”.
وممن أخذ عن محمد محمود كذلك العلامة الشيخ المشهور الشيخ أحمد بن الفاضل الأبهمي ثم الديماني المتوفى سنة 1319هـ. وفي ترجمته في كتاب الأنساب لحفيده الأستاذ محمد فال بن عبد اللطيف: “ثم رحل في طلب العلم إلى أهل الصفراء و الخضراء في ولاية لبراكنه وهو لقب حاضرة أهل حيب الله بن القاضي من قبيلة إيجيجب لأنه كان عندهم خيمتان للتلاميذ إحداهما من وبر الإبل والأخرى من صوف الضأن فمكث معهم زمانا منكبا على طلب العلم ولسان حاله ينشد:
تروم المجد ثم تنام ليلا = لقد أطمعت نفسك بالمحال
وحدث لـه هناك خارق وهو أنه اشتكى مرض الشقيقة من إحدى عينيه ورمدت الأخرى فكانت والدته تأتيه بالدواء على بعد الشقة على نحو ما يفعل بعض الأولياء فتداويه ثم . و من المتواتر عند الناس أن والدته كانت تأتيه في المنام بكل ما طرأ من الأخبار بعده و كان ينوي أن يذهب من هناك مباشرة إلى الشيخ سيدي و لكنه رأى في منامه جده والد بن خالنا فقال لـه أنت مآلك الأشياخ و لكن ارجع إلى أمك فامكث معها ما دامت حية”.
وممن درس في الكحلاء كذلك جدنا العلامة محمذ بن أبا بكر الذي أخذ عنه العلامة امحمد بن أحمد يور علم التركة، ودرس فيها جدنا الشيخ القارئ أحمد بن ادن بن عبد الله بن أشفغ مينحن، وممن درس فيها أيضا العلامة سيدي بن التاه بن محمذ بن أحمد بن العاقل.
وقد ترك العلامة محمد محمود بن حبيب الله بن القاضي مؤلفات منها: شرح على معين والده حبيب الله (وهو طرة على مختصر خليل)، ومفتاح المرتج في نظم ألفاظ المنهج للزقاق، ودعوة الفلاح في مسائل النكاح، وشرح مفيد بن الخراشي وهو أحد تلامذته.
يقول عنه ميلود ولد المختار خي في الإصابة في مناقب الشيخ محنض باب: “انقطع به قول الحق في بلاده”.
قيل إنه قبل أن يبدأ مباشرة القضاء جال في منطقة القبلة وليس معه من الكتب إلا دلائل الخيرات، وقد أفتى في سبعين مسألة دون الرجوع إلى كتاب ولم ترد له فتوى منها”.
وكتب العلامة اجدود ولد اكتوشنِ: “هذا وإن ما حكم به محمد محمود وسلمته غرة العلماء مسلم عندي، وحكم محمد محمود في بلاد القبله لا يتعقبه إلا معاند).
وفي مدح محمد محمود يقول تلميذه ميلود بن المختار خي الديماني :
قل للمساود إن تظلم دياجيها = هذا ابن بجدتها ركاب ناجيها
طلاع أنجدة حمال ألوية = بشرى المحامد في الدنيا وما فيها
صعب البديهة مرضي الخليقة بل = غوث الخليقة يهديها يواسيها
في كل حكم إذا وافى الجزاء قضى = قاضي المشارق طرا وابن قاضيها.
توفي محمد محمود سنة 1277هـ وقد أطلق على هذه السنة سنة موت العلماء والأمراء مثل محنض باب، ومحمد لحبيب، وأحمد بن أحمد عيدّ، ومحمد بن البخاري التندغي، ومحمذ بن الأديب الديماني، وامبوي بن باب المحجوبي الولاتي، جمع الراجز بعضهم فقال:
موت ابن أعمر وموت بابا = قاضي القضاة ومحنض بابا
وابن المفيد إلف الاتباع = مجانب الغي والابتداع
وابنا حبيب الله والبخاري = لطارئ في الدهر أي طاري
كانت عليهم عمد البرايا = فانقلبوا في كفة المنايا.
وناهز عمر محمد محمود اثنتين وسبعين سنة، يقول المؤرخ أحمد محمود بن يداد خريج محظرة الكحلة:
عمر عماد الدين نجل القاضي = محمد محمود الفياض
عين من السنين عام شرعز = من ربه المميت بالخير جزي.
وقد مات محمد محمود عن أولاده صغارا جدا، لذلك سير الكحلة من بعده كبار الطلبة فيها، مثل: محمدّ ولد الخراشي والمحتار فال بن إبراهيم فال يدرسون بها ويفتون حتى كبر ابنه محمد عبد الله فأقامته جماعة قبيلته مقام والده.
وقد ساعد على استمرار التدريس بالكحله كثرة فقهاء أهل حيها، فما كان لطالب العلم أن ينتقل من بيت إلى بيت بحثا عمن يشرح له درسا من الفقه. ويتردد على ألسنة الرواة أن أسرة أهل حمد بن امين كان عدد أفرادهم خمسة عشر شقيقا هم فقهاء مدرسون كلهم.
ولما كبر ابنه محمد عبد الله نصبه أهل الحل والعقد من قبيلته قاضيا مكان والده، وبعد تنصيبه انكب على مطالعة مكتبة الكحلة ليل نهار إلى أن حفظ المكتبة الفقهية في فترة سنة كاملة. وكان يوصف بألمعية الحفظ.
وتوفي محمد عبد الله عن أولاده صغارا فتصدر للتدريس من بعده محمد عبد الله بن الوداد اليعقوبي والحسين بن الوديعة الحسني وماء العينين بن الشيخ البساتي، ومحمد سالم بن ايكاه من قبيلة أهل الحاج الغربي.
وكان القضاء جزء من رسالة الكحلة، إذ كان شيخ الكحلة قاضيا تلقائيا، ولصغر أبناء محمد عبد الله فقد عينت القبيلة اديجب مجلس شورى من الفقهاء منهم: التقي بن محمد سالم والمصطفى بن الطلبه أهل حبيب الله والحاج أحمد بن المنجى وآخرون، واجتمع المجلس وأجمعوا على أهلية وكفاءة الفقيه أحمد بن المنجى الذي نصب الفقيه المصطفى بن الطلبه “أهل حبيب الله” قاضيا بعد عهد أخذه على الجماعة. وقد عرف القاضي المصطفى بالعدل والورع، وإقامة الحق في زمن الباطل، وقد توفي بعيد دخول الإحتلال الفرنسي بفترة وجيزة.
وبعد دخول الفرنسيين لإمارة البراكنة، وما ترتب على ذلك من إعلان أمير البراكنة أحمدّ بن سيدي اعل، والزعيم الديني عبد الجليل بن الشيخ المصطفى اعتراض هذا الإحتلال خرجت الكحلة في وجهه وهاجرت إلى أرض الركيبه، وعادوا بعدما أتم احتلال البلاد جميعا وعاد الزعيم عبد الجليل، فيما قرر آخرون البقاء كالأمير أحمدّ بن سيد اعل والعلامة سيدي المختار بن سيدي بن الشيخ القاضي دفين الذي توفي في مراكش.
وبعد عودة الكحلاء من ارقيبة تولى التدريس بها الشيخ محمد محمود بن محمد عبد الله ابن حبيب الله (ديدّ)، ونصب أيضا قاضيا بعد استقالة القاضي محمد عبد الله بن محمدا، توفي محمد محمود(ديدّ) سنة 1347هـ. وأرخ لوفاته الرئيس المصطفى بن أداعَ فقال:
ينير كبس أحد وشزمس = واليوم في الربيع الال خامس
فيه الفقيه بن الفقيه قد قضى = وما لنا إلا بالرضاء بالقضا
محمد محمود نجل القاضي = محمد عبد الإله الراضي
نجل همام العصر في كل بلد = محمد محمود من قد اجتهد
نجل حبيب الله نجل القاضي = مدائن الفتاوي والتقاضي
بجاههم طرا وجاه الخلفا = وكل من بالمصطفى قد اقتفى
اغفر ذنوبي ما بدا وما خفي = أصلح لنا من أمرنا ما يختفي.
وقد تولى القضاء من بعد محمد محمود شقيقه أحمدّ الذي توفي سنة 1368هـ، وكان آخر شيوخ الكحلاء.
يقول محمد فال بن عينين الحسني:
وكانت الكحلَ للتعليم مدرسة = واليوم مدرسة التعليم لكور.
وعن الكحلة انبثقت محظرة الصفراء ــ لكثرة طلاب الكحله ــ على يد العلامة اللغوي أحمدّ بن حبيب الله بن القاضي وقد توفي سنة وفاة الشيخ المصطفى بن الشيخ القاضي الذي أرخ لوفاته أحمد محمود بن يداد الحسني بقوله:
وعام شرصط به الله اصطفى = شيخ الشيوخ العارفين المصطفى
سلالة الشيخ الكبير القاضي = له القديم بالمقام الراضي.
أي سنة 1269هـ.
وتولى التدريس بعده ابنه محمد الحاج ت حوالي 1300هـ، وله طرة على مختصر خليل، وعرفت المحظرة في ومنه ازهارا، وخلفه في الصفراء ابنه محمد محمود ت حوالي 1322هـ أو 1323هـ. وقد حج بيت الله الحرام وكان من رفقاء العلامة البشير بن امباركي ذكره في رحلته الشهيرة بقوله:
ومن بني القاظي الأماجد الأبر = محمد محمود خلي الأبر.
وهو آخر شيوخ الصفراء، وقد هاجر مع الكحلاء عن الاستعمار الفرنسي.
ومن خريجي الصفراء اعبيد بن الأمين من قبيلة أولاد بزيد، ومحمد عبد الرحمن بن أحمد بن المبارك بن اليمين القناني وهو الذي يقول في الحنين والشوق إلى الصفراء:
أبى لي أن أصبو إلى الخرد الدهرا = وأن آلف النوم الخيال من الصفرا
فما هو من ليلى ولا أم عامر = ولا هو من سلمى ولا هند لا بشرى
تنسكت عن وصل الخرائد برهة = وآلت لي الصفرا قطعت لها الأمرا
فــــــــسلمت مقهورا ببرح غرامها = كما فعلت قبلي بكل فـــــــــــتى قهرا
وسفر بموماة تمطوا لزورها = نجائب من قفر يسرن إلى قفرا
بها فـــــــــــــتية آووا طريقة مالك = كما مالك آوى طريق أبي الزهرا
بتدريس ذي فقه ونحو ابن مالك = ونص بتصنيف السنوسي في الكبرى
فإن تلقهم تلقى معما ومخولا = وقاض وذا تقوى ومن يألف الصبرا
كأنهم وهنا من الليل ركعا = عراجين جنات حمتها السرا هصرا
فـــــــــــــذا قائم يبكي وذاك مؤذن = وذي فتيــــة تقرا وذي أضيف تقرى.
ومما قيل من الشعر في مدح الكحلاء والصفراء وشيوخهما أيضا:
أستودع الله أقواما تركتهم = عند الصفيراء لا أبغي بهم بدلا
ما بين حبر ببث العلم مشتغل = ومن تراه بليل العلم مشتغلا
الله بارك في ما الله أودعه = من اقتفائهم من يقتفي السبلا.
العالم الشاعر الشيخ محمد حامد بن آلا.
أيا قاصد القوم الألى علوا اتئد = إذا كنت تبغي تكسب الحمد والفخرا
فلا تنتسب للغر من آل هاشم = ولا الشم من لخم ولا مضر الحمرا
ولا تنضين البزل في طلب العلا = إذا قطعت قفرا رميت بها قفرا
ولا تقدم الرايات في كل مشهد = لتوردها بيضا وتصدرها حمرا
ولا تغترب تنحو مدارس تيرس = ولا تلف يوما تنتحي الكحل والصفرا
ولك اجمع الأموال وابخل بفضلها = ولا تعط ذا قربى ولا تجبرن كسرا
فإن كنت من عرب فأنت ابن منذر = وإن كنت فرسيا فأنت إذن كسرى
وأنت إياس وابن قيس وحاتم = وأنت حكيم من يدب على الغبرا.
للعلامة أحمد بن ابا الحسني المتوفي حوالي 1200هـ.
وقد تفرعت من محظرة الكحلاء والصفراء محظرة الفرع الشهيرة، وسميت الفرع لتفرعها عن الصفراء ووطنها وطن الكحلاء، وقد أسسها العلامة الحاج أحمد بن المنجى الإديجبي الذي كان له أثر الحياة الثقافية والمسار القضائي لقبيلته، وهو خريج محظرة الصفراء، وقد توفي سنة 1323هـ، وخلفه في المحظرة ابنه المصطفى، وجعل المحظرة إلى حي أهل الشيخ القاضي بدعوة من الشيخ محمد محفوظ ولد الشيخ القاضي سليل مشيخة التربية الشهيرة “أهل الشيخ القاضي”، وتعاونا على إقامة مؤسسة الفرع، وقد ساعد هذا التعاون على استقرار المحظرة واستقطاب الطلبة من كل حدب وصوب، وازهرت ازدهارا كبيرا وتخرج منها الكثير من العلماء والقراء. توفي المصطفى سنة 1358هـ، وولده الحاج أحمد إذ ذاك صغير، ودرس الحاج أحمد على عدة قراء في ولاية البراكنة ثم التحق بمحظرة أهل الطالب إبراهيم، الشهيرة وبعد عودته منها انتدبه أبناء الشيخ محمد محفوظ وأعاد ألق محظرة الفرع.
ويتولى التدريس في محظرة الفرع اليوم الشيخ محمد يحيى ابن المنجى وأبناؤه العلماء بارك الله فيهم.
وفي ختام هذه الترجمة هذا ذكر لبعض رجال مدرسة إديجبه قال العلامة المؤرخ المختار بن حامد في موسوعته فقال:
مدرسة إيجيجبه من رجالها:
الفقيه أحمد باب بن الحاج الإجيجبي، وهو أحد الشيوخ الذين أخذوا عن شيخ الشيوخ الفاضل بن أبي الفاضل الحسني الذي أخذ عن العلامة علي الأجهوري بمصر، بلغ أحمد باب الغاية في معرفة الفقه واجتمع في مدرسته الكثير من الطلبة، وسئل شيخه الفالي عن تلامذته أيهم أفقه فقال: أحمد باب. عاش في القرن 12هـ.
حبيب الله بن القاضي الفقيه القاضي المفتي المؤلف، كانت مدرسته غاصة بالطلبة حتى إن الدراسة اليومية كان يؤخذ فيها مختصر خليل برمته، وتسمى مدرسته بالكحلاء، لأن أخبية الطلبة من الصوف الأسود، تصدر فيها رجال من شتى القبائل. توفي حول 1240هـ.
محمد محمود بن حبيب الله بن القاضي الفقيه القاضي المؤلف استمرت المدرسة عنده كما كانت عند والده أو فوقه، وتخرج عليه عدد من العلماء من شتى القبائل فضلا عن قبيلته، توفي 1277هـ.
محمد عبد الله بن محمد محمود، بن سابقه.
ديد بن محمد عبد الله بن محمد محمود.
محمد أحمد بن حبيب الله بن القاضي تسمى مدرسته بالصفراء لأن أخبية طلبتها من وبر الإبل.
محمد المصطفى بن أحمد بن حبيب الله بن القاضي.
أحمد محمود بن محمذ بن محمد الفقيه المتكلم السيري تسمى مدرسته بالبيضاء لبياض أبنيتها.
الناج بن أحمد محمود بن محمد الفقيه القاضي.
المصطفى بن المنجى الفقيه القارئ.
محمد يحيى بن المصطفى بن المنجى الفقيه القارئ.
محمذ بن بابان.
المصطفى بن الخراش.
أحمد سالم بن دحى.
وههنا انتهى ما سقته من ترجمة العلامة حبيب الله بن القاضي وتعريف بالكحلاء والصفراء ومحظرة الفرع وشيوخها، رجعت فيه لمراجع عديدة، مثل كتاب الوسيط، وفتح الشكور، وموسوعة المختار بن حامد، ومعجم المؤلفين الموريتانيين، وكتاب الأنساب لابن عبد اللطيف، بيد أن أكثر نقلي كان من كتاب الأستاذ المصطفى الندى: “أساليب التدريس المحظري من خلال محظرة الكحلاء والصفراء”، هذا المؤلف الرائق الذي يصفه علامة شنقيط العلامة محمد سالم ولد عدود بقوله:
أذكرتني الكحلاء والصفراء = ومضات من البحوث تراءى
قدحتها يد الندى ابن الندى من = نعش السامعين والقراء
رد ذهني إلى المحاظر إذ كا نت تزين العمران والصحراء
فكأني أرى أساتذة التدريس تفني أعمارها إقراء
وكأني أرى جهابذة النقد تديم الإسقام والإبراء
وكأني أرى عباقرة النحو تباري الخليل والفراء
وكأني أرى مطارحة الإعراب تحيي التحذير والإغراء
وكأني بين الجميع غريب = يسمع الجد منهم والهراء
يتأرى إناه من نوبة التاديت تأتي صبيحة غراء
يسرد الثمن يعرب البيت يصمي القرن يعدو فيلهثون وراء
ألف الخفض والغنى فأتى القوم فأضحى يعاشر الفقراء
قر عينا بهم وطاب بهم نفسا فجافى الملوك والأمراء
لبثوا برهة بأرغد عيش = ثم عادوا أيمة سفراء
ينشرون العلم الشريف ويحيون بذاك الشريعة الزهراء
طلبوا العلم حسبة لم يريدوا = منه جاها أو سمعة أو مراء
بنت فكر عن المحاظر نجلو ها عروسا على الندى عذراء.
وللأستاذ المصطفى الندى كما هو معروف دور ريادي بارز في الإحياء الثقافي للبلد، ولعل زميله المؤرخ المختار بن حامد أدرى الناس بذلك وسجل ذلك في شعره العذب الرائق ومن ذلك قوله:
أثرت الصيد منذ كذا ولكن = تكاثرت الظباء علي جدا
فناديت الندى علما فلبى = فقلت ادعي وادعوَ إن أندى
فشد الآبدات بقيد قد = ورد الشاردات الي ردا.
رحم الله السلف وبارك في الخلف، والحمد لله رب العالمين الحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات. جمعه محمد ولد امد أمين الثقافة في المنتدى العالمي لنصرة الرسول صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم، كان الله له وليا ونصيرا.
وسيتواصل بحول الله تاريخ موريتانيا الإيجابي بأمر من الشيخ علي الرضى بن محمد ناجي رئيس المنتدى العالمي لنصرة الرسول صلى الله عليه وسلم أيده الله بحفظه وعونه ونصره.
شاهد أيضاً
العلامة النابغة الغلاوي / تاريخ موريتانيا الإيجابي
بسم الله الرحمن الرحيم . الحمد لله رب العالمين . صلى الله وسلم على رسوله …